vendredi 26 novembre 2010

ناجية السميري: "دار البناني".... "إقامة" مريحة للكتب والمخطوطات النادرة


ريبورتاج
في باب المنارة..حيث القنديل يضيء عالما معرفيا رحبا

دار البناني».... «إقامة» مريحة للكتب والمخطوطات النادرة



في شارع باب المنارة (التابع لربط باب الجديد) ينتصب مبنى دار البناني، فضاء ثقافي سخّره صاحبه السيد محمد البناني لطالبي المعرفة بكل مجالاتها الادبية والاقتصادية والتاريخية والفنية والفلسفية والدينية وغيرها... فضاء جامع لتاريخ تونس وازمنتها المتعاقبة،وما كتب عنها في أدب الرحلة بأقلام مختلفة الجنسيات ايطالية وألمانية وانقليزية، تحكي عن عادات تونس وتقاليدها وثقافتها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أدباء اقاموا على هذه الارض في فترات مختلفة وشغلوا بما اكتشفوه فيها ودوّنوه حين عودتهم لأوطانهم، وبعين المقتنص الباحث عمّا ندر واحيانا بحكم الصدفة عثر عليها السيد البناني واقتناها من المكتبات أو من المزادات أو من أمكنة أخرى بعيدة وضمها الى مجموعته القيمة النادرة التي تضم حوالي اثني عشر عنوانا ومئات المخطوطات النادرة تحتلها رفوف غرفتين ومخزن وخزينة حديدية مقفلة على الكتب والمخطوطات الأكثر ندرة والتي لا توجد منها سوى نسخة واحدة يمتلكها هذا الرجل المهووس بالورق ورائحته العتيقة النفاذة..وملمسه..في كتب يزيدها الزمن خلودا وسحرا.

هذا الفضاء المقام بمنزل عربي عتيق امتلكه أجداده وآل اليه بالوراثة حوّله في منتصف التسعينات الى خزينة كتب وفتحه للمثقفين والطلبة والباحثين، بعد عودته من بلجيكا حيث كان يشتغل بالصحافة الاقتصادية.

يقول السيد محمد البناني ان العشق والصدفة قاداه نحو هذه المغامرة وسيق اليها منذ بداية الثمانينات حيث انطلق في تجميع الكتب المطبوعة التي تحكي عن تونس بلغات مختلفة، وعند عودته النهائية الى أرض الوطن جلب في حقائبه أكثر من أربعمائة عنوان لكتب مختصة في الانتروبولوجيا والاتنولوجيا والتاريخ في تونس والمغرب العربي التي أصبحت فيما بعد مقصد الطلبة والباحثين لندرتها في المكتبات العمومية باعتبارها منشورة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ولم يعد نشرها، والتي تمثل الجانب الكبير من المكتبة فيها المراجع والمصادر لأن الأوروبيين عندما جاؤوا إلى تونس أنجزوا أبحاثا مختلفة عنها (بقبائلها وقراها وجهاتها) ودوّنوا دراسات عن خصوصيات كل فئة.

الكتب التي تحتضنها رفوف الفضاء مبوبة حسب أصنافها (مطبوعة أو مخطوطة) ومواضيعها وتواريخها واذا طلبت منه أحد المراجع يتجه مباشرة الى مكانه ويتناوله بحرص شديد يقلب صفحاته مزهوا كمن يمسك بجوهرة نادرة وثمينة ويسترسل في تقديم محتواه بلغة العارف المتمكن،ويحدثك عن كاتبه وتاريخه ونوعية الخط (اذا كان مخطوطا) ولا ينسى في سياق كل هذا ان يذكرك بأنه يغار على كتبه كغيرته على ابنته الوحيدة.

هذا «كتاب العبر» لابن خلدون، مخطوط نادر يزيد عمره عن 450 سنة وهذا لابن أبي ضياف (120 سنة) وهذا تفسير القرآن الكريم للبيضاوي (400 سنة) وهذه مجموعة شعرية لمحمود بورقيبة بخط يده غير منشورة وقصة لمصطفى خريف وكتاب «فتاوى» للفقيه صالح المالقي ومجموعة نسخ من مجلة «المباحث» التي كان محمد البشروش يشرف على إصدارها،والعدد الأول من مجلة «الاذاعة» والعدد الاول للرائد التونسي في 22 جويلية 1860..وغيرها...

ومع كل ما تحتويه مكتبته يواصل السيد محمد البناني اقتناء كل ما يصدر عن تاريخ تونس والمغرب العربي وعن السوسيولوجيا وعلم النفس والتربية عن طريق الاشتراكات أو في إطار التعامل مع مراكز الدراسات والجامعات خارج تونس (الغرب والشرق وامريكا..)

بالاضافة الى الكنوز الورقية من كتب ومخطوطات ومجلات وجرائد ،يمتلك البناني خزينة نادرة من الصور لا تحصى ولا تعد بالابيض والاسود، بوبها على جهاز الحاسوب حسب المواضيع، تونس ومدنها وأسواقها القديمة ومهنها وديارها ومعالمها وفنونها وشخصياتها السياسية والثقافية والدينية،وكل باياتها وفرقها المسرحية والموسيقية والغنائية، يمسك بـ«الفأرة» ويوجهها ليبحر بزائره في تاريخ البلاد التونسية قبل وبعد الاستقلال عبر مختلف مراحلها التاريخية وسياقاتها الى غاية مرحلة بناء الدولة الوطنية، هذه المجموعة النادرة من الصور لا تقتصر على الحاضرة وانما تتعداها إلى القبائل والقرى والمدن لتحيل على جوانب من الحياة اليومية فيها وامتزاج الاجناس التي عاشت على أرضها.

من بين المواضيع التي اختارها السيد البناني ليطلعنا على خصوصيتها ونشاطاتها وتاريخها «المرأة التونسية» ومن خلالها تجلت مجموعات من الصور:أول طبيبة تونسية وأول فريق تمريض وأول معلمات مدارس وأول فريق كرة سلة نسائي وأول مظاهرة نسائية تونسية تطالب باستقلال البلاد.

ثم تقفز «الفأرة» مبحرة نحو مختلف المواضيع الاخرى على غرار صورة لجامع الزيتونة المعمور بعدسة ايطالية اخذت سنة 1856 بصومعته القديمة او صورة لأولى المطابع التونسية من الداخل والتقنيات القديمة المستعملة فيها، وصورة لمسرحية تضم النواة الاولى للممثلين التونسيين وصور أخرى لفرق مسرحية جاءت من فرنسا وايطاليا ومن الشرق لتعرض أعمالها في تونس.

يوم واحد وحتى ايام كثيرة لا تكفي للاطلاع على مخزون الصور التي تضمها خزينة البناني، التي تعد بالالاف وتعتبر كنزا حقيقيا بكل ما في الكلمة من معنى نسخها على جهاز الحاسوب واحتفظ بأصولها على «النيغاتيف»وعلى قطع البلور (تقنية قديمة في التصوير الفوتوغرافي ظهرت في بداية القرن التاسع عشر) أخفاها في الخزينة الحديدية خوفا عليها من الضياع والتلف.

وهو الى جانب هذا يهتم بتسفير الكتب القديمة ويشرف بنفسه على تحويلها الى مجلدات قيمة بأغلفة جلدية أنيقة تقاوم الزمن وتحميها من الرطوبة والتآكل.

بقي أن نشير الى أن السيد محمد البناني يحتفظ في مكتبته بأربعين كتابا طبع في تونس وخارجها استعان كتّابها بالرصيد الهائل لمكتبته في مواضيع شتى وذكروه في فهارسها..

دار البناني تتحول يوم الاربعاء الى منتدى يجتمع فيه زوار أوفياء من الطلبة والاعلاميين والأدباء والمثقفين للتحاور والنقاش حول اخر الاصدارات ومستجدات الساحة الثقافية التونسية والعربية.

ويبدو انه آن ألاوان لتغيير ذلك المثل القديم «قنديل باب منارة يضوي على البراني» لأن دار البناني قنديل يشع بنوره بعيدا ويفتح أبوابه لكل طالب معرفة ليثري أبحاثه وثقافته..


ريبورتاج:ناجية السميري


ملاحظة: بين أيديكم النسخة الثالثة والتسعين من مدونة "صحفي تونسي"، بعد أن قام الرقيب الالكتروني بحجب النسخة الثانية والتسعين السابقة، بصورة غير قانونية في تونس