mercredi 26 juin 2013

دمشق وسط العاصفة ... السقوط المستحيل نشر المحبة لمواجهة هجمة الإرهاب والتكفير - 2

دمشق وسط العاصفة ... السقوط المستحيل
نشر المحبة لمواجهة هجمة الإرهاب والتكفير (2)



                                                                                                        بقلم: زياد الهاني


تزامن جلوسنا داخل المطعم الخارجي بفندق الشيراتون مع سماع دويّ طلقات مدفعية لم نتبيّـن في البداية إذا كانت راجعة لقاذفات الهاون أو لراجمات صواريخ. هذا الوضع غير المألوف بالنسبة لنا عمق لدى الجميع شعورا بالقلق بدأ يتسلل إلى صدورنا، بعد أن تأكد لنا أن الدخان الذي شاهدناه في مدخل دمشق على مستوى داريّا ناتج عن التراشق والاشتباكات الجارية هناك بين القوات الحكومية والمتمردين.

خلف سور الفندق المغطى بنباتات الزينة تمكننا من مشاهدة نافورة ساحة الأمويين التي كانت تبعث أقواسا مائية زادتها الإضاءات الملونة جمالا. وخلف الساحة في نفس الجهة المقابلة بناية عالية هي مقر مؤسسة التلفزيون السوري التي شهدت قبل أيام قلائل تفجيرا انتحاريا بسيارة ملغومة عند مدخلها. زميلنا زهير لطيف كان حاضرا لتلك الواقعة وسعى إلى تصويرها
أمرّ من مشاهد التدمير التي صورها لنا، كانت واقعة تلك السيدة المسيحية العجوز التي كانت من ضمن الحضور وسألته عن بلده. وحين علمت أنه من تونس لم تتمالك أعصابها لتدخل في حالة هستيرية لم تنفك تردد فيها: لماذا تقتلوننا؟ لماذا تأتون لقتل أولادنا؟ ما الذي فعلناه لكم؟ هل وصلكم منا يوم أذى أو مكروه؟ بلادنا كانت دائما مفتوحة ويدها ممدودة بالخير لكم، لماذا تأتون لزرع الإرهاب والخراب فيها؟ ولولا تدخل عناصر الأمن المرافقين لزميلنا لحمايته من غضب وجيعتها، ربّما حصل له ما لا يحمد عقباه.

كان الظلام قد أرخى سدوله عندما حلّ موكب مفتي الديار السورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون الذي دعانا للعشاء ليلتها. توقعت أن يظهر الرجل نشازا وسط جوّ شاعري انضاف فيه إلى جمال المكان وحسن ترتيبه، منظر جبل قاسيون عند شمال المدينة خلفنا بكل جلاله وجمال مسابح الضوء التي زينت خاصرته، وكذلك صوت كوكب الشرق أم كلثوم الشجي الساحر الذي يشعرك بأن الحياة فيها ما يستحق أن يعاش. ومحروم من نعم الله ورحمته هو من لا يحب الحياة !!

تكلم المفتي عن الوجع السوري والظلم المسلط على أهل الشام. تحدث عن الدين بلغة المفرد المتنوع لا المتعدد. فهو عنده واحد أعلنه إبراهيم عليه السلام، وما نسميها أديانا  فليست سوى شرائع تحرض على عبادة الإلاه الواحد؛ والدين عند الله محبة... كما تحدث بعطف للعائلات التونسية التي جاءت لزيارة أبنائها المعتقلين في سوريا التي جاؤوها سعيا للقتال ضد جيشها العربي المسلم الذي حمى ظهر المقاومة وزودها بالمال والسلاح. كان متفهما لحالتهم ومتمنيا أن يعودوا معهم إلى تونس بأبنائهم واضعا مكانته وسمعته في الميزان لتحقيق هذا الهدف الذي لا ينظر إليه عديد السوريين المكلومين في أبنائهم بعين الرضا.
المفتي تحدث كذلك بفجيعة عن ابنه الذي قتله المتمردون نكاية فيه بعد أن رفض الالتحاق بصفوفهم، لكنه مع ذلك سامحهم.. تعجبت بادئ الأمر مما اعتبرته من الرجل تفريطا في دم فلذة كبده. لكن عندما علمت بأن مفتي الديار السورية هو في نفس الوقت شيخ الطريقة النقشبندية، وهي إحدى الطرق الصوفية المنتشرة في المنطقة، أدركت بأن الشيء من مأتاه لا يستغرب. فوجهة أهل الطرق الصوفية في الدنيا معرفة الله الذي لا تدرك نوره إلاّ القلوب الصافية التي تخلصت من أدران الحقد.

تنتشر الطريقة النقشبندية في بلاد الشام والعراق وتركيا وكردستان وشمال القوقاز، إضافة إلى الصين وبعض جمهوريات آسيا الوسطى. ويؤكد أتباعها أنهم ملتزمون بالكتاب والسنة ويعتبرونها طريقة الصحابة الكرام وينسبونها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.  ولفظ «نقشبند» مصطلح مكون من كلمتين إحداهما عربية وهي «نقش»، والثانية فارسية وهي «بند». وكان يطلق اسم نقشبند على الرسام. وبالتالي فإن وصف أتباع هذه الطريقة بهذا الاسم هو بدعوى أنهم «يسعون إلى نقش محبة الله في قلوبهم بالذكر المتواصل والسلوك المأثور عن سادتهم».
وعكس معظم الحركات الدينية، لا ترتبط النقشبندية بمركز معين. فهي تطبق نظام اللامركزية الذي يسمح بقيام مجموعات مستقلة في كل دولة.  وقد أسسها ضياء الدين خالد حسين المعروف باسم مولانا خالد النقشبندي أوائل القرن التاسع عشر. واستطاعت هذه الطريقة أن تفرض نفسها في كردستان بعد صراع مع أتباع الطريقة القادرية المنسوبة إلى  القطب الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني.
وفهمنا للانتماء الفكري لمفتي سورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون  يسهل علينا فهم مواقف الرجل وخاصة سماحته وحلمه
 وتحمسه للعفو عن الشبان التونسيين المغرر بهم الذين ذهبوا للقتال في سورية تحت راية الجهاد المزيفة. فالنقشبندية لا تكفّر أحدا، وتعتبر أنه يجب توجيه النصح للحكام الذين لا يحكِّمون شرع الله تعالى دون تكفيرهم، إلا إذا تركوا شرع الله تعالى استخفافا واستهزاء أو أنكروا شيئا مما عُلِم من الدين بالضرورة.
وخلافا لما عرف عن أهل الصوفية بشكل عام من ابتعاد عن الانشغال بالشأن العام في المجتمعات التي يعيشون فيها لاعتقادهم في ضرورة التحلي بالزهد والورع والتفرغ للعبادة والابتعاد عن الخلافات الدنيوية، فإن الطريقة النقشبندية تلعب دورا سياسيا واجتماعيا جلياّ في معظم المجتمعات التي انتشرت فيها، ولها مساهماتها في حركات التحرر الوطني مثلما هو حاصل في العراق. لكن هذه الحركة الصوفية لم تدخل يوما في معركة مع غيرها من الفرق والمذاهب الإسلامية. ومن هنا نفهم لماذا اختار مفتي سورية عدم الانضمام إلى حركة التمرد رغم رفعها لشعارات إسلامية، مفضّلا أن يقف إلى جانب النظام الحالي للحكم موقف الناصح الأمين درءا للمخاطر الجسام التي تهدد بلده وتمثّـلا لقوله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم « قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» صدق الله العظيم.

·       زرّاع الزيتون
بمنطق لا يختلف في جوهره عن منطق مفتي سورية، يرى رئيس وفد المجتمع المدني السوري خالد محجوب رئيس دار محجوب الخيرية أن الهجمة التي تتعرض لها بلاده تدخل من جهة أولى في إطار مسعى لتعزيز الهيمنة الدولية على المنطقة وإعادة تشكيلها من جديد بما يخدم المصالح الإسرائيلية وضمان ديمومة تفوق إسرائيل على خصومها العرب؛ لكنها من جهة ثانية محاولة وهابية لخدمة أجندا طائفية بغيضة عمودها الفقري التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين وأدواتها البترو- دولار السعودي والقطري بتنسيق تركي لاهث وراء حلم عثماني ضائع. والهجمة الوهابية تكفيرية المتن حاقدة الروح. ومثل هذا الحقد يمكن مواجهته بنهج المحبة، من داخل نفس المنظومة الفكرية الإسلامية مجسدة في الحركة الصوفية، هذه الحركة التي كانت رافعة أساسية لنشر الإسلام في مختلف أرجاء الأرض وللحفاظ على ديمومته رغم كل التحديات ومحاولات الاجتثاث عبر مختلف العصور.

وكما يضع خالد محجوب الصوفية في مستوى التضاد مع الوهابية  مبرزا تناقض سماحة الأولى وانفتاحها على الآخر مقابل انغلاق الثانية ونزعتها التكفيرية التدميرية التي تلغي الآخر المختلف معها حتى وإن كان منتميا لنفي المنظومة الإسلامية، يرى زراعة الزيتون كدليل على الاستقرار والتأصل الحضاري نقيضا للبداوة بمفهوم مصطلح "الأعراب" الخلدوني، وثقافة القنص التي يسميها ثقافة "أضرب واهرب". فمن يزرع الزيتون يصبر عليه السنين الطوال حتى يثمر وينتج، وهو يزرعه للأجيال التي ستأتي من بعده دون أن يكون واثقا بالضرورة من أنه سيصيب جانبا من المحصول. أما القنص فيقوم على الآنية، آنية الفعل من حيث الزمن وآنيّة الاستفادة من منتوجه. وشتان بين من يتعامل مع مفردات الواقع بمنطق البناء ومن يتعامل معها بمنطق الفريسة!؟

ولا يمكن بأية حال بالنسبة لرئيس وفد المجتمع المدني السوري المقارنة بين الرصيد الحضاري لسورية وتونس اللتين أنتجتا حضارة تدمر وقرطاج العريقتين، وبين من يعادي كل أشكال التأصل الحضاري الذي لا رصيد له فيه. وفاقد الشيء لا يعطيه...

لكن ألا يمكن من زاوية مخالفة أن يستبطن هذا التمشي الذي يقابل بين تحضر البنّائين القائم على زراعة الزيتون وبين البداوة القائمة على ثقافة القنص، نوعا من الاستعلاء الذي يتعارض مع فكرة التسامح والمحبة التي لا يمكنها أن تقوم إلاّ على قاعدة الإيمان الحق بالمساواة والتمثل الواعي لها؟ ربما... لكن هنالك واقع يفرض نفسه. هنالك من يتمسك بالحضارة كسِـفــــٍر له ويرفض أن يكون صفرا على هامشها، وهنالك أيضا من يرفضها ويسعى إلى إلغائها، ليس كاستغلال دارج للمبتكر التكنولوجي ولكن كفكر حرّ وخلاق قادر على ابتكار التكنولوجيا وصناعتها وتطويرها. ومن مشائخ هؤلاء من ينظّـر إلى عدم الحاجة للأخذ بناصية العلوم الحديثة والاكتفاء بما له علاقة بالشرع من منطلق أن المولى عزّ وجلّ سخّر للمسلمين في تقديره علماء العالم ليبتكروا لهم، والنفط ليشتروا بثمنه ما شاءوا من المنتجات والطيبات!؟

لذلك يعمل خالد محجوب وهو رجل أعمال وصناعي صاحب براءات اختراع متعددة على تطوير اقتصاد متحرر من النفط وبالتالي من البترو-دولار الممول الأساسي لهجمات التكفير والإرهاب السلفي الوهابي. اقتصاد يحترم البيئة وكرامة الإنسان الذي فضله الله على سائر مخلوقاته وكرّمه بالعقل. والتحرر من الحاجة عنصر أساسي من عناصر إقرار السلام ونشر ثقافة المحبة التي ستكون كفيله بدحر ثقافة الإرهاب والتكفير وإلغاء الآخر.
بسم الله الرحمن الرحيم : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» صدق الله العظيم


المصدر: جريدة "الصحافة اليوم"، العدد الصادر يوم الخميس 27 جوان 2013

  الصور:
1-  نقيشة محبة في جدار قلعة دمشق التي بناها صلاح الدين
2-  عائلات تونسية تطلب الرحمة بأبنائها المعتقلين
  



mardi 25 juin 2013

دمشق وسط العاصفة ... السقوط المستحيل : بوابة يابوس.. (1)

دمشق وسط العاصفة ... السقوط المستحيل
بوابة يابوس.. (1)
                                                                             

بقلم زياد الهاني

الطريق إلى دمشق مفروشة بالأوهام والمصائد لكل من لم يخبر شعابها ولم يدرس بعمق تاريخها. تعاقب عليها الغزاة القادمون إليها من الجهات الأربعة بدءا بالآشوريين الذين جاؤوا شرقا من العراق في القرن الثامن قبل الميلاد لإنهاء حكم آرامي أصيل امتد عبر آلاف السنين، وصولا إلى الفرنسيين القادمين غربا تحت غطاء التحرير، بخلفية صليبية لم يستطع الجنرال غورو إخفاءها وهو يقف على قبر صالح الدين بعد انتصاره في معركة ميسلون عام 1920، واحتلال قوات بلاده لسوريا قبل أن تغادرها مكرهة بفعل ضراوة المقاومة الشعبية عام 1946.
على امتداد حوالي الثلاثة آلاف عام كانت دمشق، وتسمى بالآرامية دار ميسك وتعني الدار المسقية أو الأرض وفيرة المياه وأيضا مدينة المسك والرائحة الطيبة وتسمى كذلك بالياسمين والشام قبل أن يحرفها النطق اللاتيني إلى دوماسكوس، قد مرت من حكم البابليين إلى اليونانيين في ظل الإسكندر المقدوني قبل أن تعود إلى حكم العرب الأنباط المستقل مع الملك الحارث الثالث. ثم احتلها الرومان ومن بعدهم البيزنطيون الذين سمحوا بنوع من الحكم الذاتي للعرب الغساسنة انتهى بالفتح العربي الإسلامي على يد خالد بن الوليد. ثم كانت تولية معاوية بن أبي سفيان مدخلا لتحويلها إلى عاصمة لخلافة أموية شاسعة أسقطها العباسيون بعد أن ركزوا حكمهم في بغداد التي اتخذوها عاصمة لخلافتهم. وبعدهم جاء السلاجقة والفاطميون ثم الأيوبيون والمماليك وأخيرا وليس آخرا العثمانيون. ومع كل هؤلاء كان الدرس المتكرر والمستخلص هو أن قطعة الجنة التي قال الأديب والرحالة الجغرافي ياقوت الحموي عنها: "ما وصفت الجنة بشيء، إلاّ وفي دمشق مثله"، لم تزدهر وتنتعش تجارتها وأحوال أهلها إلاّ بتوفر عنصر الاستقرار. ولم تعد عليها التقلبات السياسية والاضطرابات والتدخلات الخارجية  بغير الخراب والدمار الذي كان سكانها أكبر المتضررين منه.
كانت هذه المقدمة ضرورية للتأكيد على أن التعاطي مع الشعوب المتأصلة في الحضارة يكون سطحيا إذا انبنى على معالجات ميكانيكية ولم يأخذ بعين الاعتبار التراكم التاريخي لما استبطنته هذه الشعوب في لاوعيها، وهو ما يتدخل ضرورة في تحديد الوعي والموقف الناتج عنه عند لحظة الاشتباك مع متغيرات الواقع وأحداثه. والوعي التاريخي لا ينفصل عن إدراك التحديات الراهنة ودور دمشق في معادلة الصراع ضد إسرائيل، وهي التي كانت لاعبا أساسيا في معركة التحرر من الاحتلال الغربي المتمركز في مملكة بيت المقدس الصليبية التي أطاح بها صلاح الدين الأيوبي بعد انتصاره على الصليبيين والبيزنطيين في دمياط. لذلك ليس غريبا أن نجد اليوم من يتحالف مع الغرب وإسرائيل لإسقاط دمشق وهو يرفع الشعارات الإسلامية والطائفية البغيضة، فقد سار الإسماعيليون المستقرون في ريف حمص ودمشق على هذا النهج من خلال تحالفهم مع صليبيي مملكة بيت المقدس التي كانت تحتل جزءا من الجولان السوري، لكن عاقبتهم كانت وخيمة على يد عماد الدين زنكي الذي قضى على خيانتهم عام 1129. والتاريخ اعتبار... لكن لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن التأسيسات التاريخية على اقتضابها والمبادئ العامة التي ذكرتها هنا، لا تحجب نسبية ما سأعرضه من آراء واستنتاجات في مقالي. اعتبارا لأن ما شاهدته وعاينته هو جزء من الحقيقة وليست الحقيقة كلها، ومن قابلتهم وتحدثت معهم هم جزء من الطيف السوري، لذلك وجب التوضيح والتنسيب.
·       يابوس
انطلقت رحلتي إلى دمشق يوم الأحد الثاني من شهر جوان في إطار وفد إعلامي رافق وفدا من المجتمع المدني شكله الإعلامي الزميل زهير لطيف لاصطحاب عائلات معتقلين تونسيين في سوريا تمكن خلال زيارة إعلامية سابقة له إلى دمشق من ترتيب لقاء لهم بأبنائهم.
وجدنا في مطار تونس قرطاج الذي فقد صفة "الدولي" كل التسهيلات لتيسير مرورنا ومنها تخصيص الوفد بممر خاص عند شرطة الحدود، بعد أن وجدنا كذلك كل التسهيل من قبل مصالح الخطوط الجوية التونسية. وكانت مؤشرات ذات دلالة بالنسبة لنا على التقبل الإيجابي من حكومتنا للمبادرة التي مضينا من أجلها. حيث لم يكن من السهل توقع ذلك التعاطي المتفتح مع قطع العلاقات الدبلوماسية بين تونس وسوريا ومزايدات بعض من يكررون جهلا بأن النظام السوري الحالي انتهي وبأنهم في انتظار تركيز الحكومة الثورية الجديدة حتى يعيدوا ربط العلاقات معها !؟ وتكرس نفس المعطى في بيروت حين وجدنا في انتظارنا ممثلين عن سفارتنا في لبنان قاما بالتنسيق مع السلط اللبنانية لتيسير إجراءات دخولنا. ومن مطار بيروت الدولي كان انطلاقنا مباشرة بواسطة حافلة إلى الحدود السورية الواقعة على حوالي 150 كيلومترا شرقا عبرنا خلالها جبل لبنان متجهين من البحر إلى السهل وسط مناظر طبيعية وعمرانية خلابة غبطنا من أجلها أهل البلد. وكان وصولنا إلى معبر المصنع اللبناني الحدودي الذي اجتزناه دون تعطيل إداري يذكر، مؤشرا إلى أن ساعة الجد حلّت وبأنه علينا أن نسترهف حواسنا ونستنفرها منذ تلك اللحظة وفاء منا للمهمة التي قدمنا من أجلها وللأمانة التي آلينا على أنفسنا حملها بحثا عن الحقيقة واستجلاء لها من وسط الضباب.
في الجانب السوري تغير المشهد وأصبحنا نسلك طريقا سيارة ذات اتجاهين واسعين مع ممر مخصص للاستعمالات العسكرية. وبعد مسيرة كيلومترات معدودة وجدنا أنفسنا في معبر يابوس أو يبوس السوري، وسط منطقة تاريخية ورد اسمها في الإنجيل والتوراة. واليبوسيون قبيلة كنعانية هاجرت من شبه الجزيرة العربية إلى الشام خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد. وهم الذين بنوا بقيادة ملكهم " صادق" مدينة القدس التي أسموها "شاليم" على اسم إلاه السلام عند الكنعانيين. ثم حرفت هذه التسمية في وقت لاحق لتصبح "أورشالم" أو "أورشليم" وتعني "مدينة السلام". واستقر اليبوسيون في المنطقة لمدة طويلة حتى وصول بني إسرائيل في القرن الثاني عشر قبل الميلاد واستيلائهم على المدينة وطردهم منها. بعدها تشتت اليبوسيون في بلاد الشام ولم يرد لهم أي ذكر في التاريخ منذ ذلك الحين باستثناء ما جاء في الإصحاح الأول من التوراة في سفر القضاة، من أن اليهود لم يطردوا اليبوسيين من مدينة القدس بل أبقوا عليهم فيها؟
كانت البوابة واسعة ومتعددة المباني. وقد تم استقبالنا في مبنى كبار الزوار من قبل وفد المجتمع المدني السوري برئاسة خالد محجوب حيث حظينا باستراحة مستحقة بعد طول سفر، نلنا فيها نصيبا من مختلف المشروبات كانت القهوة العربية أكثرها تميزا. وعلمنا فيما بعد أن راعي ضيافتنا خالد محجوب رئيس دار محجوب الخيرية، رجل أعمال سوري حامل للجنسية الأمريكية وتتركز أعماله في دبي. وهو من أنصار الحزب القومي الاجتماعي السوري ولا يخفي انتقاداته اللاذعة لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا، حزب الرئيس بشار الأسد. لكن الرجل طوى حقائبه عائدا إلى بلاده للدفاع عن نظامها حتى لا يسقط. وفي ذلك يقول: "نحن نختلف مع النظام لكن لن نسمح بسقوطه، حتى لا يحل ببلدنا الخراب. الديمقراطية ابنة تربتها، ولا يمكن لها أن تنجح عبر إسقاط آخر نظام علماني في المنطقة لأن نجاح الديمقراطية مرتبط بتوسيع الطبقة الوسطى ونشر التعليم والقيم الحداثية، وإبعاد الدين والسياسة عن الاقتصاد"...
·       مرقد هابيل
وغير بعيد عن البوابة الحدودية يوجد على قمة رابية يسارا مرقد هابيل إبن أدم عليهما السلام الذي قتله أخوه قابيل غيرة وحسدا، وكان قابيل عاملاً بالأرض أما هابيل فكان راعيا للغنم. وقد قررا تقديم قربان للرب تعبدا وتزلفا. أما قابيل فقدم من ثمار الأرض قربانه، في حين قدم هابيل قربانه أضحية من غنمه. لكن الرب نظر إلى هابيل وقربانه ولم ينظر إلى قربان قابيل الذي اغتاظ جداً، وردّ الفعل بالتوجه إلى أخيه هابيل في الحقل وقتله. وفي ذلك نزلت الآية الكريمة في سورة المائدة: بسم الله الرحمن الرحيم Ra bracket.png وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ Aya-27.png لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ Aya-28.png إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ Aya-29.png فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ Aya-30.png فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ Aya-31.png La bracket.png صدق الله العظيم. وفي الجهة المقابلة على يميننا وفي مكان منزو أسفل صفحتي تلتين متقابلتين كان تربض دبابة للجيش العربي السوري مولية مدفعها عكس اتجاه المقام وكأنها تقول "للبيت ربّ يحميه". وهي أول آلية عسكرية ثقيلة نلحظها منذ دخولنا للتراب السوري.
مضت الحافلة تطوي بنا الأرض طيّا ولم تتوقف سوى لحظات معدودة في حواجز المراقبة العديدة التي اعترضتنا. فعند مدخل كل حاجز كانت سيارات المرافقة التي تصطحبنا تمر بنا عبر الممرات العسكرية الخاصة فاتحة لنا الطريق. فيما كانت مئات السيارات الأخرى متعطلة إلى جانبنا وهي تخضع إلى التفتيش الدقيق. وكانت الحركة عادية على جانبي الطريق لولا مفارز التفتيش التي لم تكن تترك شاردة تمر ولا واردة دون أن تتثبت منها. بعض راكبي السيارات كانوا ينظرون إلينا في أعلى كراسينا بالحافلة بمزيج من الفضول والاستهجان. أحد السواق قال لي في مناسبة لاحقة: "لا يضيرني أن أنتظر خمس ساعات عند أي حاجز. لكن يجن جنوني كلما شاهدت أحدا يلقى معاملة تمييزية تجعله أفضل مني"...  
·       انفجار داريّا
بدءنا نقترب من دمشق وبدأت الصورة تتوضح. رداء من نسيج البناء الممتد على مدى الأفق أمامنا والمتقدم باتجاهنا بدأ في احتلال الفضاء ونحن نسير من الغرب في اتجاه الشرق في خط مستقيم اتجاها ومتعرج توجها. لمحنا جبل قاسيون من بعيد على يسارنا، أما على اليمين القريب فكان الدخان متصاعدا من أحياء لم تكن تبعد عن وسط الطريق أكثر من ثلاثة كيلومترات، وفكرنا أن يعود الدخان لقصف أو عمل تفجيري. تلك هي داريّا الواقعة غير بعيد عن معظمية دمشق حيث كانت المعارك مستعرة بين قوات الحكومة والمعارضة. ولم يخب حدسنا حيث علمنا حال وصولنا إلى فندق الشيراتون على طريق المزة في مدخل دمشق حيث تنتصب ساحة الأمويين بنافورة مياهها الجميلة بكل بهاء، بأن داريّا تعرضت إلى القصف قبل قليل، والحصيلة سبعة قتلى وعشرات الجرحى. (يتبع)...



*الصورة:
 1- معبر المصنع اللبناني: حركة عادية في الاتجاهين
2- معبر يابوس السوري: هنا توقفت مملكتا داوود وبيت المقدس على التمدد