مجرد رأي
«السبوعي» في ذمّة اللّه
حزن عميق يخيّم على البيت
بقلم: زياد الهاني
كانتا تبكيان في صمت..
ما أجمل الدموع في أعينهما الجميلة وهي تبوح بحب صادق لا رياء فيه، وتعكس لوعة يفيض بها قلباهما الصغيران..
- «بابا .. السبوعي مات!؟»
سؤال تقريري جانح إلى التكذيب وباحث عن الخلاص في كلمة نفي تزيح الغمة الجاثمة على الصدور الصغيرة. ولكن لا خلاص ولا مجيب، لأن السبوعي فعلا مات ومضى إلى عالم غير عالمنا لتبقى منه أعماله الفنية والذكريات.
كثيرون هم الأطفال الذين بكوا السبوعي، تلك الشخصية الهزلية التي جسّدها باقتدار الممثل الراحل سفيان الشعري.
لست ناقدا فنيا ولا مختصا في تقييم الأعمال التلفزية حتى أتناول أعمال سفيان الشعري بالنقد والتحليل. لكني من موقعي “المتعالي” على كل عمل لا يحمل “رسالة”، لأن الفن رسالة عندي أو لا يكون، لم أكن أخفي امتعاضي مما أراه بلادة ذهنية في الشخصيات التي تقمصها سفيان الشعري. لكن بناتي الثلاث كنّ يرفضن مني تلك المواقف، مدافعات بشراسة عن خفة روح الفقيد المتعارضة مع حجمه ووزنه. بل وتغمرني سعادة بالغة تنعش كياني كلّما لعلعت ضحكاتهن البريئة تعبيرا منهن عن الإعجاب بإحدى حركات نجمهن المفضل!!
فالسبوعي تمكّن رغم كل تحفظاتي من إدخال السعادة إلى قلبي المتعب الباحث عن فرح لم يتحقق بعد وطال انتظاره. ليس من خلال علاقتي المباشرة به كمتلقى، ولكن من خلال السعادة وبريق الفرح الذي تمكن من غرسه في عيون بناتي.
مسحة حزن شاملة عمّت بيتي منذ الإعلان عن خبر وفاة السبوعي مساء الإثنين. ولاحظت أن الحزن لم ينحصر في حماي حيث انضمت بنتا زميلي عادل رشدي رابح إلى بنتيّ الصغيرتين للتوحد في مواجهة الحزن، بل كان مشتركا بين بيوت صحفيي الحي وأزقته حيثما يوجد أطفال. كلهم التقوا على الألم لفراق صديق حميم اختطفته يد المنون. ما أحلى وفاءهم لأصدقائهم في زمن عزّ فيه الوفاء.
ولأن علاقتي بأبناء صحفيي حيّي ودية وأبوية خالصة، فقد تحسست ألمهم وأثّر في نفسي أيّما تأثير، تماما كما تحسست ألم بناتي ولوعتهن.
تذكرت عاطف وشقيقته إبنا الزميل المرحوم شكري الفطناسي. كان عاطف مشاكسا وكان الاصطدام بيننا حتميا خلال الرحلات التي سبق أن نظمتها جمعية الصحفيين التونسيين لأبنائنا. لكن كم كانت سعادتي غامرة وأنا أرى هذين اليتيمين بالذات وهما يقلّدان وسط المجموعة حركات السبوعي ويضحكان حد الاستلقاء على الظهر أحيانا..
تذكرت فوزي بوزيان والهاشمي نويرة اللذين كانا يحرصان في كل مناسبة على توفير مستلزمات العيد لهما ولغيرهما من أيتام الصحفيين.. تذكرت سنية عطار التي كانت تحرص على أن تتولى بنفسها شراء المياه المعدنية وعلب العصير والشيبس (بطاطا مقلية) والبسكويت لهم.. وسالم بوليفة الذي كان يلاعبهم وكأنه طفل مثلهم.. فيما كنت أتمسك بالحفاظ على بعض من الهيبة والحزم اللذين يمكنانني من ضبط الأمور عندما يتوجب منع الانفلات..
ترى من سيتذكر هؤلاء الأيتام في العيد ونحن على أبوابه؟
«بابا.. السبوعي مات!!»..
بلى، السبوعي مات ووحده الحي الباقي لا يموت.. قبل يومين غادرنا والد زميلنا عادل البرينصي وواروه الثرى بمسقط رأسه في ريف جميل منه انطلق في رحلة الحياة المعذبة رغم كل تفاصيلها الجميلة وتعددها.. فلكل رحلة بداية ونهاية، وكم هو متعب هذا السفر..
مات السبوعي في غمرة حملة غبية شنها عليه الثوريون الجدد. بعضهم لا يفهم أن الاستبداد وإن كان مسلطا على كل التونسيين الاّ أن وقعه على أهل الإبداع والفن أكبرحيث يعني الاشتباه في أحدهم وأده ونهاية مساره الفني.
الفنانون جزء من هذا الشعب الذي كان راضخا للاستبداد وتحرروا بفضل ثورته مثلما تحرر..
وفي النهاية وأيّا كانت مواقفنا، فكلّنا عابرون..
- «بابا.. السبوعي مات!!»
بلى السبوعي مات.. وبكيت!