jeudi 31 mai 2012

بعد أن تآكلت مصداقيته : المجلس الوطني التأسيسي في مفترق طرق


http://www.essahafa.info.tn/clear.gif
مجرّد رأي

بعد أن تآكلت مصداقيته
المجلس الوطني التأسيسي في مفترق طرق


بقلم : زياد الهاني

المجلس الوطني التأسيسي انجاز حققه التونسيون بفضل السياق الثوري الذي مكنهم من إحداث شرخ عميق في جدار منظومة الاستبداد وجعلهم يعتقدون واثقين في قدرتهم على بناء المجتمع الديمقراطي الذي ناضلت من أجله أجيال من التونسيين الأحرار ودفعوا ضريبة حلمهم والتزامهم من أجله غاليا.

لذلك ارتبط انبعاث المجلس الوطني التأسيسي بهالة من الرومنسية الحالمة ارتقت به إلى حالة من التقديس في اللاوعي الجمعي، لكننا نسينا في الأثناء أن أعضاء هذا المجلس هم أبناء مجتمعهم يحملون ما فيه من مواطن القوة والضعف والتمرد الثوري والفساد.

نسينا أو لعلنا لم ننتبه إلى أن هؤلاء الأعضاء الذين أفرزتهم العملية الانتخابية ليحتلوا مقاعد تمثيل الشعب في المجلس التأسيسي ليسوا بالضرورة هم أفضل من ترشح لهذه التمثيلية ولا هم بالضرورة في مستوى سمو المجلس الذي فرضته اعتصامات «القصبات» وساقتهم إليه انتخابات 23 اكتوبر 2011 ؟

كثيرون هم التونسيون الذين تابعوا بامتعاض المهازل التي حصلت في عديد جلسات المجلس من قبل نواب محترمين. وكثيرون هم الذين تفاعلوا بحلم (بكسر الحاء) مع هذه التجاوزات مستندين إلى ما رأوه يحصل من مشاحنات في عديد البرلمانات الديمقراطية.

ولم نفقد الأمل في رؤية المجلس ينجز مهامه ويقدم للتونسيين دستورا يكون في مستوى انتظاراتهم وتطلعاتهم للعيش أحرارا محفوظي الكرامة في بلد آمن ومستقر ومزدهر. لكن التطورات الأخيرة جاءت لتعصف بهذا الأمل وتحتم مراجعته.

المنطلق كان الحملة المسعورة ضد ما يسميه البعض عودة التجمعيين وإقصائهم من الحياة السياسية والتهديد بنصب المشانق لهم. وهي قولة حق يراد بها باطل وتوجه مخادع مآله الفشل والخسران المبين لأنه لا يستهدف فقط من أجرم في حق الشعب ممن لا يمكن التسامح معهم، بل يتجاوز ذلك إلى إقصاء طيف سياسي دستوري ضاربة جذوره في الحركة الوطنية وقادر على تعديل التوازن السياسي المختل وذلك باستغلال المجلس الوطني التأسيسي أو بالأحرى أغلبيتهم فيه لاستصدار قانون يمكنهم من تصفية خصومهم السياسيين تحت شعارات الثورة، بعد أن عجزوا هذه المرة عن انتداب «تيّاسة» من اليسار للقيام بهذه المهمة بالنيابة عنهم. غير عابئين بما فعلته تجارب الاجتثاث في دول أخرى وما جلبته من خراب ودمار.

أما قاصمة الظهر فكانت قضية الزيادة في رواتب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ورفعها بالنسبة إلى العاديين منهم من 2300 إلى 4200 دينار على أساس تمكينهم من منح تعويضية للسكن والتنقل. وتم تقديم هذه الزيادة كإنجاز سيخفف من العبء المحمول على كاهل ميزانية الدولة اعتبارا لارتفاع كلفة الإقامة في الفنادق والتي كان يتكفل بها المجلس لأعضائه. صحيح أن النظام السابق كان يتكفل بإقامة النواب القادمين من الداخل، لكن ذلك كان محدودا ولا يتم إلا بمناسبة الجلسات العامة وليس على مدار السنة.

وكان يتحتم على النواب أن يبادروا بأنفسهم إلى الاكتفاء برواتبهم المجزية وتدبير شؤون مسكنهم على أساس هذه الرواتب وليس تثقيلها على حساب ميزانية الدولة ودافعي الضرائب المنهكين.

لن أتناول في هذا السياق ما تسرب على الاجتماع السري لأهل المجلس والمطالب الجشعة والمشينة التي تقدم بها البعض بما يذكرنا بمنطق «الطرابلسية» وغيرهم من ناهبي المال العام.
فالمجلس التأسيسي فقد الكثير من مصداقيته عند المواطن وعليه أن يتعامل مع هذه الحقيقة بعيدا عن منطق المؤامرة. وإذا كان بعض من في هذا المجلس يتصورون أنهم أصحاب فضل علينا وان مطالبتهم بمضاعفة رواتبهم المليونية حق مستحق وتضحية منهم بمكاسب لهم أهم قبل دخولهم المجلس، فنحن نعفيهم من فضلهم ونشكر سعيهم ونسألهم برفق أن يرحلوا، وكلنا ثقة في أن أعمدة السماء لن تنهار فوق رؤوسنا. أما الدستور فلنا من العلماء الأجلاء من يقدر على صياغة نص رائع يستجيب لتطلعاتنا وآمالنا تطوعا منهم ودون منة ولا مطالبة بثمن.

مجلسنا التأسيسي الذي تآكلت مصداقيته بشكل جدي أصبح في مفترق طرق ووحدهم أعضاؤه قادرون على تحديد مصيره ومستقبله السياسي، مع التذكير بأن شرعية الثورة تبقى فوق شرعية الانتخاب. وللثورة حماتها الذين صنعوها قبل أن يركبها الراكبون.

المصدر: جريدة "الصحافة" الصادرة يوم الخميس 31 ماي 2012