حيكت حولها الأساطير
شجرة الدُل ... لتحقيق
الأماني !!
·
بين "سدراية أم الشلايڨ" بوادي سراط و"دُل سيدي حمادة" وشيجة قربى !!
الصحافة اليوم –
زياد الهاني:
كانت الحقيقة أجمل من كل الروايات!!
شجرة نبيلة حيكت حولها الأساطير، تخرج من بين الصخور على ارتفاعات عالية حيث سكن
النسور... تلك هي شجرة الدُل التي اندثرت من مجمل التراب لتونسي ولم تبق منها سوى
مستوطنة صغيرة في أعلى جبل السرج على جانبه الجوفي الذي يعتلي قرية سيدي حمادة
مواجها سهل سليانة.
بتحصيل طلب عزيز أو الظفر بمكسب غالي. وما على المريد
منهم سوى التسلح بالعزيمة و "يعقد النيّة"، ليصعد إلى حيث الشجرة
"المباركة". وعند بلوغها يربط خيطين أبيض وأخضر بأحد أغصانها، ثم ينوي
ما سعى من أجله، آملا أن يتحقق مراده في أقرب الآجال!!
وبقدر ما تعتبر الحكاية طريفة في حد ذاتها ومغرية
للمتابعة، بقدر ما يزيد ما ينقله الرواة عن جمال موقع الشجرة وسحره من الرغبة في
الاستكشاف.
موقع نادر
في بداية الثمانينات اكتشف مجموعة من الباحثين وجود
مستوطنة نادرة من أشجار الدُل Erable de Montpellier وتسمى كذلك "القيقب"، تحت قمة جبل السرج من جهة سليانة على
ارتفاع يناهز 1300 متر عن سطح البحر. وتتكون المستوطنة من 85 شجرة دُل هي آخر ما
تبقى على التراب التونسي من هذا الصنف. ولمنع اندثار هذه الشجرة التي تصنف ضمن
الأشجار النبيلة وحماية عديد الأصناف النباتية والحيوانية المهددة ومنها الذئاب، اتخذت
الدولة سنة 1993 قرارا بإحداث محمية بجبل السرج، قبل أن تتحول المحمية إلى حديقة
وطنية في 2010. ومن المقرر أن تتعزز الحديقة بفصيلة من الغزلان التي سيعاد توطينها
فيها.
عملية الحماية مكنت من تمدد مستوطنة أشجار الدُل التي
أصبح عددها يناهز 130 شجرة بعد أن كانت محصورة في حدود 85 شجرة فقط عند اكتشاف
وجودها. وتشكل هذه المستوطنة مثلثا في الخد الأعلى من الجبل تحت قمته من الجهة
الغربية بـ"دمنة" مائلة تحتوي على عين جارية هي مصدر شرب النسور التي
تتخذ من تجويفات الخد المشار إليه سكنا لها.
لكن الشجرة النبيلة متواجدة أيضا في بعض المواقع
المعزولة تحت هذا المستوى على ارتفاع لا يقل عن 1000 متر. ومنها الشجرة مقصدنا
التي شددنا من أجلها الرحال.
ثراء نباتي
كانت الساعة تشير إلى السادسة والنصف صباحا عندما تحركنا
باتجاه مركّب الحديقة الوطنية بجبل السرج انطلاقا من قرية سيدي حمادة التي توفر
المنفذ الوحيد للمركّب ولموقع شجرات الدُل. وإذا كانت قرية سيدي حمادة تنفذ مباشرة
إلى قلب الجبل، إلاّ أن التحول إلى المركّب يتطلب اتباع طريق ينحرف عن وسط القرية شرقا
مرورا بالمقبرة الأهلية ويمضي متعرجا إلى حين بلوغ بناية المركّب الحديثة التي
عانت عديد التعطيلات في بنائها ولا تزال، بسبب إخلالات تشتم منها رائحة الفساد
الإداري. ولم يتطلب الأمر أكثر من دقائق معدودات لنبلغ المركّب ومنه يبدأ سيرنا
نحو الشجرة الموعودة. وبعد حوالي الساعة والنصف، بلغنا المقصود.
كان المسرب الذي اتبعناه وعرا، لكن العلامات التي رسمتها
إدارة الغابات على صخور بارزة وهي عبارة عن خطين متماسين بلون أبيض وقرمزي، سهلت
علينا اختصار الطريق. وكذلك فعل معنا نبات الديس بأليافه الطويلة الجارحة، حيث كنا
نقبض عيها بقوة ودون تحريك حتى تكون لنا سندا في الارتكاز وتجاوز العقبات.
وخلال رحلة الصعود يتكشف ثراء الغشاء النباتي الذي يضم
فصائل عديدة النباتات البرية ومن الأشجار والشجيرات الغابية.
كانت أشجار الصنوبر تملأ الفضاء وبجانبها شجيرات الكشريد
التي مالت أغصانها الرقيقة لكثافة ما
تحمله من ثمر البلّوط. وتأبى شجيرات التوت البري ويسميها أهل المنطقة
"اللّنج" إلاّ أن تسجل حضورها بشكل لافت يبرز قيمة الثمار التي تحملها
والمعروفة بحلاوتها الشديدة. وهناك الشاي البري الذي يلقى إقبالا كبيرا لدى سكان
المنطقة لمنافعه الصحية، وغير ذلك كثير مما يضيق المجال هنا بالتوسع فيه وشرحه.
نوايا معقودة !!
بعد أن تجاوزنا حوالي الألف متر من الارتفاع بعد توقفات
عديدة للاستراحة، سأل دليلنا: هل عرفتم أين توجد شجرة الدُل؟ ولم تكن الإجابة صعبة
إذ بمجرد التفاتتنا بدت لنا بتميزها وجمالها الفاتن وهيبتها الأخّاذة وكأنها تقول:
ها أنا ذي!!
لم تكن العين أبدا لتخطئها بأوراقها الخضراء الكثيفة
المائلة للصفار وأغصانها الممتدة بكل كبرياء!! وغير بعيد عنها نبتت شجيرة دُل
صغيرة بين فكّي صخرة متشققة، ولربّ صخر يولد من جنباته الجمال والحياة!!
احتلت شجرة الدُل التي تحلقنا حولها منبسطا صخريا صغيرا
مكننا من الطواف بها من أطرافها المتقدمة، قبل الاستلقاء تحتها لأخذ نصيب من
الراحة ومزيد التأمل في أغصانها كثيفة الأوراق ذات الظلال الوارفة.
ربما إرهاق الطريق جعلنا نغفل عن البحث حينا عن تفصيلة
هامة ترتبط بآثار من قد يكون سبقنا إلى المكان، حيث لم نعثر طيلة صعودنا سوى على مخلفات
بعض الدواب كالخنزير البري أو الأبقار والخيول البرية التي يتركها أصحابها من سكان
القرى المجاورة على الجانب القبلي من الجبل، ترعى حرّة إلى حين صيدها بالسلاح
الناري عند الحاجة.
ولم يطل بحثنا لنعثر على المطلوب: خيطان بلون أبيض وأخضر
تم عقدهما على أحد الأغصان بعقدة مفردة للخيط الأخضر وعقد متعددة للخيط الأبيض!؟
قال مرافقنا وهو يتطلع إلى أعلى الجبل: "قليلون هم
الذين يتوقفون عند هذا الحدّ، وإذا شئتم أن نواصل طريقنا إلى أعلى حيث مجمع شجرات
الدُل فعلينا الإسراع لأن العملية تتطلب ساعتين أخريين من المشي في ظروف أصعب مما
شاهدتموه إلى حد الآن".
أما وقد أخذ منا الإعياء كل مأخذ، نحن الذين ابتعدنا عن
ممارسة الرياضة منذ سنين طويلة وأنهكنا التصاقنا بمقاعد المكاتب والسيارات
والأرائك المنزلية التي تحتوينا بعد كل يوم عمل مرهق، فلم يكن أمامنا أي مجال
لقبول مواصلة الرحلة رغم إغرائها. واكتفينا من الغنيمة ببلوغ الشجرة المباركة
والتمتع بجمالها وسحر محيطها.
سدرة وادي سراط
في منطقة وادي سراط على الطريق الرابطة بين تاجروين
والقلعة الخصبة من ولاية الكاف، توجد شجرة سدر يسميها أهل المنطقة "سدراية أم
الشلايڨ"، وتحاك حولها أساطير تشبه تلك التي حيكت حول شجرة الدُل بسيدي
حمادة.
وحسب الموروث الشعبي، على كل من يرغب في تحقيق أمنية أن
يقتطع قطعة صغيرة من ثيابه ويعلقها بأحد أغصان السدرة ثم ينوي ما يشاء، على أمل أن
تتحقق أمنيته!!
وبين منطقتي سراط وسيدي حمادة وشيجة أخرى نسجها الشيخ
سيدي عبد الملك الحمادي الذي قام ابنه شيخ الطريقة الصوفية الرحمانية سيدي أحمد بن
عبد الملك (وهو الذي حكم عليه الباي سنة 1881 بالإقامة الجبرية في مسكنه بالزنقة
التي تحمل اسمه وتتفرع عن نهج الوادي الموصول بنهج المر بباب الجديد بتونس
العاصمة، بسبب اعتراضه على توقيع الباي على معاهدة الحماية التي فرضها عليه
الفرنسيون)، بإنشاء زاويته المعروفة في منطقة القنطرة قبلة سليانة على الطريق
المؤدي إلى الوسلاتية والقيروان..
ففي
جويلية 1807، خاضعت تونس حربا ضروسا بقيادة يوسف
صاحب الطابع وزير حمودة باشا القوي، ضد بايلك
قسنطينة بقيادة حسين
باي بن صالح باي الذي زحف
بجيش قوامه 30 ألف مقاتل انكشاري على البلاد
التونسية لإخضاعها وضمها. ورغم التفوق العددي الكبير لجيش الجزائر، خاض التونسيون
باستبسال معركة شرسة انتهت بنصر عظيم مؤزر. ولعب الشيخ ذي الكرامات سيدي عبد الملك
الحمادي حسبما أورده ابن أبي الضياف في إتحافه، دورا كبيرا في النصر المتحقق مما
أهّله لتكريم من الباي وبدعم قوي من يوسف صاحب الطابع، تمثل في إقطاعه الهنشير
الذي يحمل الآن اسمه بسليانة ومن ريعه صرفت الزاوية على احتضان كل من قصدها وهي
التي كانت ملجأ طلبة العلم والأرامل والأيتام وغيرهم من المحتاجين.
ولسيدي عبد الملك خلوة معلومة في جبل السرج أعلى قرية سيدي
حمادة وغير بعيد عن موقع الدُل، كان يستعملها للتعبد والتأمل بما يعكس سحر الموقع
وطابعه الروحاني المميز. وهو ما يؤكد خصوصية الفضاء وتميز أهله وورعهم وهم الذين
توارثوا حمل القرآن ونشر رسالته جيلا بعد جيل.
بواعث للحلم
لسنا بمقالنا هذا في موقع من يروج للخرافة ولصناعة الوهم، بل
نسعى للتعريف من باب الإمتاع والتوثيق بمجموعة من المعتقدات الشعبية الطريفة التي
يسعى الإنسان من خلالها لبعث مرتكزات اقتدار في داخله تمكنه من عناصر قوة تساعده
على مواجهة تعقيدات الحياة ومصاعبها. فبالحلم نحافظ على الأمل، وبالأمل نتعلق
بأهداب الحياة مهما وهنت خيوطها.
والرسالة بالنسبة للاعتقاد في بركة شجرة الدُل واضحة: من يمتلك
القوة النفسية التي تجعله قادرا على تحريك قوة حركته الجسدية لبلوغ موقع الدُل
المتعالي، لن تنقصه الإرادة لتحقيق ما يصبو إليه من نجاح ومن تحقيق لأمانيه.
*المصدر:
جريدة "الصحافة اليوم"، العدد الصادر يوم الأحد 25 سبتمبر 2016