دمشق وسط العاصفة ... السقوط
المستحيل
نشر المحبة لمواجهة هجمة الإرهاب والتكفير (2)
بقلم: زياد الهاني
تزامن جلوسنا داخل المطعم الخارجي
بفندق الشيراتون مع سماع دويّ طلقات مدفعية لم نتبيّـن في البداية إذا كانت راجعة
لقاذفات الهاون أو لراجمات صواريخ. هذا الوضع غير المألوف بالنسبة لنا عمق لدى
الجميع شعورا بالقلق بدأ يتسلل إلى صدورنا، بعد أن تأكد لنا أن الدخان الذي
شاهدناه في مدخل دمشق على مستوى داريّا ناتج عن التراشق والاشتباكات الجارية هناك
بين القوات الحكومية والمتمردين.
خلف سور الفندق المغطى بنباتات
الزينة تمكننا من مشاهدة نافورة ساحة الأمويين التي كانت تبعث أقواسا مائية زادتها
الإضاءات الملونة جمالا. وخلف الساحة في نفس الجهة المقابلة بناية عالية هي مقر
مؤسسة التلفزيون السوري التي شهدت قبل أيام قلائل تفجيرا انتحاريا بسيارة ملغومة
عند مدخلها. زميلنا زهير لطيف كان حاضرا لتلك الواقعة وسعى إلى تصويرها.
أمرّ من مشاهد التدمير التي صورها
لنا، كانت واقعة تلك السيدة المسيحية العجوز التي كانت من ضمن الحضور وسألته عن
بلده. وحين علمت أنه من تونس لم تتمالك أعصابها لتدخل في حالة هستيرية لم تنفك
تردد فيها: لماذا تقتلوننا؟ لماذا تأتون لقتل أولادنا؟ ما الذي فعلناه لكم؟ هل
وصلكم منا يوم أذى أو مكروه؟ بلادنا كانت دائما مفتوحة ويدها ممدودة بالخير لكم،
لماذا تأتون لزرع الإرهاب والخراب فيها؟ ولولا تدخل عناصر الأمن المرافقين لزميلنا
لحمايته من غضب وجيعتها، ربّما حصل له ما لا يحمد عقباه.
كان الظلام قد أرخى سدوله عندما حلّ
موكب مفتي الديار السورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون الذي دعانا للعشاء ليلتها.
توقعت أن يظهر الرجل نشازا وسط جوّ شاعري انضاف فيه إلى جمال المكان وحسن ترتيبه،
منظر جبل قاسيون عند شمال المدينة خلفنا بكل جلاله وجمال مسابح الضوء التي زينت
خاصرته، وكذلك صوت كوكب الشرق أم كلثوم الشجي الساحر الذي يشعرك بأن الحياة فيها ما
يستحق أن يعاش. ومحروم من نعم الله ورحمته هو من لا يحب الحياة !!
تكلم المفتي عن الوجع السوري والظلم
المسلط على أهل الشام. تحدث عن الدين بلغة المفرد المتنوع لا المتعدد. فهو عنده
واحد أعلنه إبراهيم عليه السلام، وما نسميها أديانا فليست سوى شرائع تحرض على عبادة الإلاه الواحد؛ والدين عند الله
محبة... كما تحدث بعطف للعائلات التونسية التي جاءت لزيارة أبنائها المعتقلين في
سوريا التي جاؤوها سعيا للقتال ضد جيشها العربي المسلم الذي حمى ظهر المقاومة
وزودها بالمال والسلاح. كان متفهما لحالتهم ومتمنيا أن يعودوا معهم إلى تونس
بأبنائهم واضعا مكانته وسمعته في الميزان لتحقيق هذا الهدف الذي لا ينظر إليه عديد
السوريين المكلومين في أبنائهم بعين الرضا.
المفتي تحدث كذلك بفجيعة عن ابنه
الذي قتله المتمردون نكاية فيه بعد أن رفض الالتحاق بصفوفهم، لكنه مع ذلك سامحهم..
تعجبت بادئ الأمر مما اعتبرته من الرجل تفريطا في دم فلذة كبده. لكن عندما علمت
بأن مفتي الديار السورية هو في نفس الوقت شيخ الطريقة النقشبندية، وهي إحدى الطرق
الصوفية المنتشرة في المنطقة، أدركت بأن الشيء من مأتاه لا يستغرب. فوجهة أهل
الطرق الصوفية في الدنيا معرفة الله الذي لا تدرك نوره إلاّ القلوب الصافية التي
تخلصت من أدران الحقد.
تنتشر الطريقة النقشبندية في بلاد
الشام والعراق وتركيا وكردستان وشمال القوقاز، إضافة إلى الصين وبعض جمهوريات آسيا
الوسطى. ويؤكد أتباعها أنهم ملتزمون بالكتاب
والسنة ويعتبرونها طريقة الصحابة الكرام وينسبونها إلى أبي بكر الصديق رضي الله
عنه. ولفظ «نقشبند» مصطلح مكون من كلمتين
إحداهما عربية وهي «نقش»، والثانية فارسية وهي «بند». وكان يطلق اسم نقشبند على
الرسام. وبالتالي فإن وصف أتباع هذه الطريقة بهذا الاسم هو بدعوى أنهم «يسعون إلى
نقش محبة الله في قلوبهم بالذكر المتواصل والسلوك المأثور عن سادتهم».
وعكس معظم الحركات الدينية، لا ترتبط
النقشبندية بمركز معين. فهي تطبق نظام اللامركزية الذي يسمح بقيام مجموعات مستقلة
في كل دولة. وقد أسسها ضياء الدين خالد حسين المعروف باسم
مولانا خالد النقشبندي أوائل القرن التاسع عشر. واستطاعت هذه الطريقة أن تفرض
نفسها في كردستان بعد صراع مع أتباع الطريقة القادرية المنسوبة إلى القطب الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني.
وفهمنا للانتماء الفكري لمفتي سورية
الدكتور أحمد بدر الدين حسون يسهل علينا فهم مواقف الرجل وخاصة سماحته وحلمه
وتحمسه للعفو عن الشبان التونسيين المغرر بهم الذين ذهبوا للقتال في
سورية تحت راية الجهاد المزيفة. فالنقشبندية لا تكفّر أحدا، وتعتبر أنه يجب توجيه
النصح للحكام الذين لا يحكِّمون شرع الله تعالى دون تكفيرهم، إلا إذا تركوا شرع
الله تعالى استخفافا واستهزاء أو أنكروا شيئا مما عُلِم من الدين بالضرورة.
وخلافا لما عرف عن أهل الصوفية بشكل
عام من ابتعاد عن الانشغال بالشأن العام في المجتمعات التي يعيشون فيها لاعتقادهم
في ضرورة التحلي بالزهد والورع والتفرغ للعبادة والابتعاد عن الخلافات الدنيوية،
فإن الطريقة النقشبندية تلعب دورا سياسيا واجتماعيا جلياّ في معظم المجتمعات التي
انتشرت فيها، ولها مساهماتها في حركات التحرر الوطني مثلما هو حاصل في العراق. لكن
هذه الحركة الصوفية لم تدخل يوما في معركة مع غيرها من الفرق والمذاهب الإسلامية. ومن هنا نفهم لماذا اختار مفتي سورية عدم الانضمام إلى حركة التمرد
رغم رفعها لشعارات إسلامية، مفضّلا أن يقف إلى جانب النظام الحالي للحكم موقف
الناصح الأمين درءا للمخاطر الجسام التي تهدد بلده وتمثّـلا لقوله سبحانه وتعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم « قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ
إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» صدق الله العظيم.
· زرّاع الزيتون
بمنطق لا يختلف في جوهره عن منطق
مفتي سورية، يرى رئيس وفد المجتمع المدني السوري خالد محجوب رئيس دار محجوب
الخيرية أن الهجمة التي تتعرض لها بلاده تدخل من جهة أولى في إطار مسعى لتعزيز
الهيمنة الدولية على المنطقة وإعادة تشكيلها من جديد بما يخدم المصالح الإسرائيلية
وضمان ديمومة تفوق إسرائيل على خصومها العرب؛ لكنها من جهة ثانية محاولة وهابية
لخدمة أجندا طائفية بغيضة عمودها الفقري التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين
وأدواتها البترو- دولار السعودي والقطري بتنسيق تركي لاهث وراء حلم عثماني ضائع.
والهجمة الوهابية تكفيرية المتن حاقدة الروح. ومثل هذا الحقد يمكن مواجهته بنهج
المحبة، من داخل نفس المنظومة الفكرية الإسلامية مجسدة في الحركة الصوفية، هذه
الحركة التي كانت رافعة أساسية لنشر الإسلام في مختلف أرجاء الأرض وللحفاظ على
ديمومته رغم كل التحديات ومحاولات الاجتثاث عبر مختلف العصور.
وكما يضع خالد محجوب الصوفية في
مستوى التضاد مع الوهابية مبرزا تناقض سماحة الأولى وانفتاحها على الآخر
مقابل انغلاق الثانية ونزعتها التكفيرية التدميرية التي تلغي الآخر المختلف معها
حتى وإن كان منتميا لنفي المنظومة الإسلامية، يرى زراعة الزيتون كدليل على
الاستقرار والتأصل الحضاري نقيضا للبداوة بمفهوم مصطلح "الأعراب"
الخلدوني، وثقافة القنص التي يسميها ثقافة "أضرب واهرب". فمن يزرع
الزيتون يصبر عليه السنين الطوال حتى يثمر وينتج، وهو يزرعه للأجيال التي ستأتي من
بعده دون أن يكون واثقا بالضرورة من أنه سيصيب جانبا من المحصول. أما القنص فيقوم
على الآنية، آنية الفعل من حيث الزمن وآنيّة الاستفادة من منتوجه. وشتان بين من
يتعامل مع مفردات الواقع بمنطق البناء ومن يتعامل معها بمنطق الفريسة!؟
ولا يمكن بأية حال بالنسبة لرئيس وفد
المجتمع المدني السوري المقارنة بين الرصيد الحضاري لسورية وتونس اللتين أنتجتا
حضارة تدمر وقرطاج العريقتين، وبين من يعادي كل أشكال التأصل الحضاري الذي لا رصيد
له فيه. وفاقد الشيء لا يعطيه...
لكن ألا يمكن من زاوية مخالفة أن
يستبطن هذا التمشي الذي يقابل بين تحضر البنّائين القائم على زراعة الزيتون وبين
البداوة القائمة على ثقافة القنص، نوعا من الاستعلاء الذي يتعارض مع فكرة التسامح
والمحبة التي لا يمكنها أن تقوم إلاّ على قاعدة الإيمان الحق بالمساواة والتمثل
الواعي لها؟ ربما... لكن هنالك واقع يفرض نفسه. هنالك من يتمسك بالحضارة
كسِـفــــٍر له ويرفض أن يكون صفرا على هامشها، وهنالك أيضا من يرفضها ويسعى إلى
إلغائها، ليس كاستغلال دارج للمبتكر التكنولوجي ولكن كفكر حرّ وخلاق قادر على
ابتكار التكنولوجيا وصناعتها وتطويرها. ومن مشائخ هؤلاء من ينظّـر إلى عدم الحاجة
للأخذ بناصية العلوم الحديثة والاكتفاء بما له علاقة بالشرع من منطلق أن المولى
عزّ وجلّ سخّر للمسلمين في تقديره علماء العالم ليبتكروا لهم، والنفط ليشتروا
بثمنه ما شاءوا من المنتجات والطيبات!؟
لذلك يعمل خالد محجوب وهو رجل أعمال
وصناعي صاحب براءات اختراع متعددة على تطوير اقتصاد متحرر من النفط وبالتالي من
البترو-دولار الممول الأساسي لهجمات التكفير والإرهاب السلفي الوهابي. اقتصاد
يحترم البيئة وكرامة الإنسان الذي فضله الله على سائر مخلوقاته وكرّمه بالعقل. والتحرر
من الحاجة عنصر أساسي من عناصر إقرار السلام ونشر ثقافة المحبة التي ستكون كفيله
بدحر ثقافة الإرهاب والتكفير وإلغاء الآخر.
بسم الله الرحمن الرحيم : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» صدق الله العظيم.
المصدر:
جريدة "الصحافة اليوم"، العدد الصادر يوم الخميس 27 جوان 2013
الصور:
1- نقيشة محبة في جدار قلعة دمشق التي
بناها صلاح الدين
2- عائلات تونسية تطلب الرحمة بأبنائها
المعتقلين